لطالما كانت هجرة الكفاءات من المشكلات القديمة الحديثة التي شغلت أذهان الباحثين منذ أمد طويل، وأفرد لها مساحات من الاهتمام على ساحة النقاشات…

لطالما كانت هجرة الكفاءات من المشكلات القديمة الحديثة التي شغلت أذهان الباحثين منذ أمد طويل، وأفرد لها مساحات من الاهتمام على ساحة النقاشات في الآونة الأخيرة؛ في محاولة للتعرف على المسببات والدوافع التي تحفز العلماء والمفكرين لاتخاذ قرار الهجرة، والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للدول الطاردة للمهاجرين، وعوامل الجذب والإغراء في الدول المستقطبة لهم.

ولا شك أن العامل الاقتصادي وسوء الأوضاع المالية للعلماء والمفكرين في بلدانهم الأصلية تمثل العامل الأكثر حسمًا من بين هذه العوامل بصفة عامة في مجتمعنا المصري، مع توافر عوامل الجذب المادية والمعنوية بدرجة كبيرة في الدول الغربية، ووجود بيئة ومجال عام مشجعان على البحث العلمي والإبداع، وكذلك دول الخليج العربي ولكن بدرجة أقل.

كذلك فإن العامل المتصل بالبحث العلمي ومشكلاته يلعب دورًا هامًا في هذا السياق، وضعف الميزانيات المخصصة لإنشاء معاهد البحوث العلمية وكليات الدراسات العليا، وغياب رؤية واضحة لتطوير الجامعات وتوفير بيئة بحثية جيدة.

وهجرة الأدمغة ليست ظاهرة جديدة، ففي الوقت الحاضر يتحرك الكثير من الأشخاص المؤهلين للحصول على المهارات والوظائف التي لا تتوفر في بلدانهم الأصلية، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه في المستقبل. وتقليديًا، ينظر إلى استنزاف الأدمغة على أنها معادلة صفرية تجعل الأغنياء أكثر ثراء، والفقراء أكثر فقرًا، كما كانت الهجرة موضوعًا للنقاش على نطاق واسع في الأدبيات المتعلقة بالعلاقات الدولية؛ حيث تراوحت الآراء بين اعتبارها لعنة بالنسبة للبلدان النامية إلى اعتبارها ظاهرة إيجابية لمثل هذه البلدان(1).

وتتركز معظم الأسباب الحقيقية لهجرة معظم العلماء في العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فمن الناحية الاقتصادية، تكون رواتب العلماء أقل من نظرائهم. ومن الناحية السياسية، يجدون أنفسهم في مواجهة البيئة السياسية في مجتمعاتهم، ويهاجرون إلى المجتمعات التي يعتقدون أنها توفر لهم بيئة يمكنهم فيها العيش في جو من الحرية(2).

وتؤكد النظريات الاقتصادية ونظريات التنمية على دور رأس المال البشري في النمو طويل الأجل والمستدام. ولقد بذلت البلدان النامية جهودًا كبيرة خلال نصف القرن الماضي لرفع مستوى التعليم وبناء كادر علمي وطني. ومع ذلك، فهم لا يزالون يعانون من ندرة العاملين العلميين المؤهلين والعمالة نتيجة للهجرة المستمرة للمواهب منذ الستينيات(3).

ولقد أسهمت العوامل التكنولوجية وعولمة وسائل الإعلام بشكل كبير في تحفيز عملية الهجرة، حيث يرى الباحث أن الإنترنت لديها القدرة على رفع معدلات هجرة الكفاءات وتوفير معلومات تتصل بالمهن المطلوبة بالخارج والفرص التعليمية، والامتيازات المادية، ونمط وأسلوب الحياة في الخارج، ولاسيما إذا قُدمت في قالب دعائي عبر الإعلانات البنرية والنوافذ المنبثقة المقدمة عبر المواقع المختلفة.

كما تقدم الإنترنت خدمة تعلم اللغات متمثلة في دروس ومحاضرات صوتية ومرئية وتدريبات تمكن المستخدم من الاستعداد لامتحانات اللغة الدولية مثل التويفل والأيلتس للغة الإنجليزية والتي كانت تكلف في الماضي مبالغ كبيرة، ووقت طويل وجهد كبيرين للسفر وحضور تلك المحاضرات في مراكز تعلم اللغات التقليدية، فأصبحت متاحة أونلاين بشكل مجاني، بل ومن محاضرين من أصحاب اللغة الأصليين.

وينظر العديد من الباحثين إلى العلاقة بين وسائل الإعلام الاجتماعية والهجرة باعتبارها تسهل العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. حيث يؤكد كل من (ديكر وإنجبرسون Dekker Engberson &) بأن قنوات الاتصال الجديدة التي فتحتها وسائل الإعلام الاجتماعية يمكن أن تؤدي إلى تحوِّل في شبكات المهاجرين وبالتالي تسهيل الهجرة من خلال أربع وظائف رئيسية:

  1. عن طريق تعزيز العلاقات القوية مع العائلة والأصدقاء.
  2. من خلال خلق روابط ضعيفة مع الأفراد الذين يمكنهم المساعدة في عملية الهجرة والاندماج.
  3. عن طريق إنشاء شبكة من الروابط الكامنة.
  4.  عن طريق إنشاء مصدر غني من “المعرفة الداخلية” عن الهجرة.

إن اجتماع هذه العوامل يمكن أن يعمل على خفض تكاليف الهجرة سواء من خلال خفض التكاليف العاطفية الناجمة عن الانفصال، وكذلك من خلال السماح بالوصول إلى كل المعلومات والاتصالات التي يمكن أن تساعد المهاجرين في الانتقال السلس(4).


(1) Lisdey Espinoza Pedraza, Brain DrainSocial and Political Effects in Latin American Countries, Revista Grafía Vol. 10 N° 2 – julio-diciembre 2013 – pp. 29-48 – ISSN 1692-6250, p 31.

(2) نصر الدين محمد أبوغمجا، هجرة العقول العربية “مقترحات عملية ورؤى مستقبلية للمواجهات” ، جريدة الدراسات المستقبلية ، المجلد 17 رقم (1)، 2016، ص 11.

(3) نبيل مرزوق، هجرة الكفاءات وتأثيرها على التنمية الاقتصادية، جمعية العلوم الاقتصادية السورية، ندوة الثلاثاء الاقتصادية الثالثة والعشرون، دمشق، 2010، ص 1.

 (4) Elaine McGregor & Melissa Siegel, Social Media and Migration Research, The Netherlands, Maastricht Economic and social Research institute on Innovation and Technology (UNU‐MERIT) – Maastricht Graduate School of Governance (MGSoG), 2013, p 5.