يلعب التعليم دورًا كبيرًا في الحراك الاجتماعي من خلال تقلد المتعلمين للمواقع والأدوار في المجتمع وما يترتب عليه من صعود لأفراد في السلم…

يلعب التعليم دورًا كبيرًا في الحراك الاجتماعي من خلال تقلد المتعلمين للمواقع والأدوار في المجتمع وما يترتب عليه من صعود لأفراد في السلم الطبقي ونزول لآخرين، بحيث تصبح إتاحة التعليم للجميع مؤشرًا على انفتاح المجتمع وتحرره من قيود الطبقية. وإذا ما حاولنا حصر العوامل التى تمكن المجتمع من الاقتراب من المجتمع المفتوح الساعى إلى العدالة، والساعى أيضًا إلى استيعاب سكانه ودمجهم فى إطار واحد، نجد أن التعليم هو أول وأهم الوسائل التى تتيح للأفراد حركة مستمرة إلى أعلى. فقد أكدت بحوث علم الاجتماع على أن التعليم هو حجر الزاوية فى الحراك الاجتماعى، واتجهت بحوث التعليم فى علاقته بالحراك الاجتماعى اتجاهات عديدة يمكن تلخيصها فيما يلى(1):

  1. تأكيد الارتباط المباشر بين التعليم والحراك الاجتماعى، فقد أكدت بحوث بلادين Bladin وزملائه على وجود ارتباطات قوية بين التحصيل الدراسى وارتفاع الدخل كما أكدت بحوث ديلورينزى De-Lorenzo وزملائه على أولوية الارتباط بين التعليم وبين الانتماء الطبقى. ويقوم افتراض العلاقة بين التعليم والحراك الاجتماعى على الاعتقاد بأن التعليم له قيمة فى حد ذاته وبصرف النظر عما يترتب عليه من نجاحات. فالتعليم له قيمة رمزية symbolic value، وهى قيمة تختلف عن القيمة الوظيفية للتعليم المرتبطة بالمهن التى ينتجها أو صور الحراك التى يخلقها، فالتعليم – فى ضوء ذلك – يبقى وسيلة لا غنى عنها لأولئك الذين يسعون إلى مزيد من الصعود إلى أعلى، وبصرف النظر عن المهن.
  2. التعليم لا يؤثر بشكل متواز فى عملية الحراك الاجتماعى (فالدرجة التعليمية الأعلى تحصل على وظيفة ومكانة أعلى)، فالذين يتلقون تعليمهم فى المدارس الثانوية المتميزة من أبناء الطبقات الدنيا والوسطى يحصلون على فرص أفضل من الذين يحصلون على التعليم الأساسى فقط؛ فالتعليم الذى يؤثر تأثيرًا أفضل فى الحراك الاجتماعى لابد أن يكون تعليمًا متميزًا. فقد أكدت الدراسات التى أجريت على الطبقات الدنيا، أن الطفل تفتح أمامه فرص الحراك الاجتماعى إذا ما حصل على تعليم متميز، وأن التعليم المتميز يضمن للأشخاص من الطبقات المستقرة عدم السقوط إلى أسفل فى سلم التدرج الطبقى. وقد فتحت هذه النتائج أفقًا نحو بحث موضوع هام وهو أن عدم المساواة فى التعليم Unequal Education للمجتمع قد لا يتيح فرصا تعليمية متساوية، وقد يرتبط التعليم المتميز بالقدرة الاقتصادية، ومن ثم يتأثر بالخلفية الاجتماعية. وفى هذه الحالة فإن التعليم يعمق صور اللامساواة الاجتماعية ولا يقضى عليها.
  3. يترتب على ذلك أن تكون المهنة هى أحد الوسائط الأساسية فى علاقة التعليم بالحراك الاجتماعى، فالمهنة التى يتيحها التعليم هى التى تحدد مصير الحركة الاجتماعية. وهى التى تعكس تعليمه، وقيمه، ومسيرة حياته، وارتباطاته بالآخرين فى الماضى. كما أنها تعكس نمط علاقاته الحاضرة، وتؤشر على دخله، وعلى نمط عمله، وعلى مدى الأمن والاستقرار الذى يتمتع به فى العمل، ومدى الفرص المفتوحة أمامه لتجميع الثروة، ونمط حياته الحالى والمستقبلي، ومدى ما يضفى عليه من شرف أو هيبة أو قوة. إن التعليم هو الذى أنتج المهنة، ولكن المهنة هى التى تحدد كل هذه الأبعاد الدالة على الحراك الاجتماعى للفرد. ويدل ذلك على أن العلاقة بين التعليم والحراك الاجتماعى قد لا تنتج حراكًا، إلا إذا ارتبط التعليم بمهنة تنتج عملاً، وعلاقات، وأسلوب حياة، وصورًا من القوة والهيبة. إن المهنة هى التى تمنح الفرد امتيازه، ومن ثم فإن خريطة المهن هى التى تعكس خريطة المجتمع الطبقية، وأن رموز المهن وما يحيط بها من ألقاب وامتيازات هى الدالة فى النهاية على الوضع الطبقى للفرد، فالمجتمع فى النهاية هو “مجتمع ألقاب” Credential Society.
  4. وفى المقابل يشكك البعض (وإن كان عددهم أقل ونفوذهم أضعف) فى أهمية التعليم فى الحراك الاجتماعى. ويؤكد هؤلاء على أن التعليم ما هو إلا أحد العوامل المهمة فى الحراك الاجتماعى، وليس هو العامل الأكثر أهمية. وقد ذهب هذا المذهب أندرسون Anderson الذى قام بتحليل بيانات مقارنة من المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، والسويد، وتوصل إلى نتيجة مفادها أنه بالرغم من أن التعليم يؤثر على فرص الفرد للصعود أو الهبوط عبر السلم الاجتماعي، فإن الحراك لا يرتبط بالتعليم إلا ارتباطًا جزئيًّا، وأن التعليم ما هو إلا عامل واحد من بين عوامل كثيرة، وتتأسس هذه الفرضية على ما يلاحظ من أن ثمة فروق فعلية – فيما يتصل بالمستوى الاجتماعي الاقتصادي – بين أولئك الذين يتشابهون فى التعليم. فالخلفية الاجتماعية التى جاء منها الفرد تؤثر تأثيرًا كبيرًا على إمكانيات صعوده. فإذا تشابه اثنان في التعليم، فإن الفرد القادم من خلفية اجتماعية أكثر استقرارًا وأكثر رفاهًا سوف يكون متميزًا طبقيًّا عن نظيره الذى حصل على نفس التعليم. ومن ثم فإذا كان التعليم يؤدى إلى الصعود الاجتماعي، فإنه لا يلغى التميزات الطبقية، أو صور اللامساواة الاجتماعية التى ترتبط باعتبارات أخرى بعيدة عن التعليم.
  5. وقد ترتب على كل هذه التوجهات البحثية أن التفت الباحثون إلى العوامل التى قد تساعد مع التعليم فى تحقيق الحراك الاجتماعي (مثل التنشئة والمشاركة السياسية، التطوير التكنولوجي، العولمة والاتصال الثقافي، الهجرة .. إلخ) أو التى قد تمنع – فى حالة عدم تحققها- التعليم من أن يؤتى ثماره فى عملية الحراك الاجتماعى. وتقوم وجهة النظر هذه على أن العلاقة بين التعليم والحراك الاجتماعي علاقة معقدة ولها وجوه عديدة. ومن ثم فإن بحث هذه العلاقة لابد وأن يتم على خلفية الوعى بأهمية العوامل الأخرى الفاعلة فى هذه العلاقة.

(1) أحمد زايد، التعليم والحراك الاجتماعى فى مصر، مؤتمر قضية التعليم في مصر-العائد الاقتصادي والاجتماعي، 23 – 24 فبراير 2008، ص 2-  4.